الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد وكفاية المقتصد **
-وأما الجمع فإنه يتعلق به ثلاث مسائل: إحداها جوازه. والثانية في صفة الجمع. والثالثة في مبيحات الجمع. أما جوازه فإنهم أجمعوا على أن الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة سنة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضا في وقت العشاء سنة أيضا. واختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين، فأجازه الجمهور على اختلاف بينهم في المواضع التي يجوز فيها من التي لا يجوز، ومنعه أبو حنيفة وأصحابه بإطلاق. وسبب اختلافهم أولا اختلافهم في تأويل الآثار التي رويت في الجمع والاستدلال منها على جواز الجمع لأنها كلها أفعال وليست أقوالا، والأفعال يتطرق إليها الاحتمال كثيرا أكثر من تطرقه إلى اللفظ. وثانيا اختلافهم أيضا في تصحيح بعضها، وثالثا اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهي ثلاثة أسباب كما ترى. أما الآثار التي اختلفوا في تأويلها، فمنها حديث أنس الثابت باتفاق أخرجه البخاري ومسلم قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب" ومنها حديث ابن عمر أخرجه الشيخان أيضا قال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء" والحديث الثالث حديث ابن عباس خرجه مالك ومسلم قال "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر" فذهب القائلون بجواز الجمع في تأويل هذه الأحاديث إلى أنه أخر الظهر إلى وقت العصر المختص بها وجمع بينهما. وذهب الكوفيون إلى أنه إنما أوقع صلاة الظهر في آخر وقتها وصلاة العصر في أول وقتها على ما جاء في حديث إمامة جبريل قالوا: وعلى هذا يصح حمل حديث ابن عباس لأنه قد انعقد الإجماع أنه لا يجوز هذا في الحضر لغير عذر: أعني أن تصلى الصلاتان معا في وقت إحداهما، واحتجوا لتأويلهم أيضا بحديث ابن مسعود قال "والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قط إلا في وقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع" قالوا: وأيضا فهذه الآثار محتملة أن تكون على ما تأولناه نحن أو ما تأولتموه أنتم. وقد صح توقيت الصلاة وتبيانها في الأوقات، فلا يجوز أن تنتقل عن أصل ثابت بأمر محتمل. وأما الأثر الذي اختلفوا في تصحيحه، فما رواه مالك من حديث معاذ بن جبل "أنهم أخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا" وهذا الحديث لو صح لكان أظهر من تلك الأحاديث في إجازة الجمع
لأن ظاهره أنه قدم العشاء إلى وقت المغرب، وإن كان لهم أن يقولوا إنه أخر المغرب إلى آخر وقتها وصلى العشاء في أول وقتها لأنه ليس في الحديث أمر مقطوع به على ذلك، بل لفظ الراوي محتمل. وأما اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهو أن يلحق سائر الصلوات في السفر بصلاة عرفة والمزدلفة، أعني أن يجاز الجمع قياسا على تلك، فيقال مثلا: صلاة وجبت في سفر، فجاز أن تجمع أصله جمع الناس بعرفة والمزدلفة، وهو مذهب سالم بن عبد الله: أعني جواز هذا القياس، لكن القياس في العبادات يضعف، فهذه هي أسباب الخلاف الواقع في جواز الجمع.
-(وأما المسألة الثانية) وهي صورة الجمع فاختلف فيه أيضا القائلون بالجمع أعني في السفر. فمنهم من رأى الاختيار أن تؤخر الصلاة الأولى وتصلى مع الثانية وإن جمعتا معا في أول وقت الأولى جاز، وهي إحدى الروايتين عن مالك، ومنهم من سوى بين الأمرين: أعني أن يقدم الآخرة إلى وقت الأولى أو يعكس الأمر وهو مذهب الشافعي وهي رواية أهل المدينة عن مالك، والأولى رواية ابن القاسم عنه، وإنما كان الاختيار عند مالك هذا النوع من الجمع لأنه الثابت من حديث أنس، ومن سوى بينهما فمصيرا إلى أنه لا يرجح بالعدالة: أعني أنه لا تفضل عدالة عدالة في وجوب العمل بها، ومعنى هذا أنه إذا صح حديث معاذ وجب العمل به كما وجب بحديث أنس إذا كان رواة الحديثين عدولا، وإن كان رواة أحد الحديثين أعدل.
-(وأما المسألة الثالثة) وهي الأسباب المبيحة للجمع، فاتفق القائلون بجواز الجمع على أن السفر منها، واختلفوا في الجمع في الحضر وفي شروط السفر المبيح له، وذلك أن السفر منهم من جعله سببا مبيحا للجمع أي سفر كان وبأي صفة كان، ومنهم من اشترط فيه ضربا من السير، ونوعا من أنواع السفر، فأما الذي اشترط فيه ضربا من السير فهو مالك في رواية ابن القاسم عنه، وذلك أنه قال: لا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير، ومنهم من لم يشترط ذلك وهو الشافعي، وهي إحدى الروايتين عن مالك، ومن ذهب هذا المذهب فإنما راعى قول ابن عمر "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير" الحديث. ومن لم يذهب هذا المذهب فإنما راعى ظاهر حديث أنس وغيره، وكذلك اختلفوا كما قلنا في نوع السفر الذي يجوز فيه الجمع. فمنهم من قال: هو سفر القربة كالحج والغزو، وهو ظاهر رواية ابن القاسم. ومنهم من قال: هو السفر المباح دون سفر المعصية، وهو قول الشافعي وظاهر رواية المدنيين عن مالك. والسبب في اختلافهم في هذا هو السبب في اختلافهم في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وإن كان هنالك التعميم، لأن القصر نقل قولا وفعلا، والجمع إنما نقل فعلا فقط، فمن اقتصر به على نوع السفر الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجزه في غيره، ومن فهم منه الرخصة للمسافر عداه إلى غيره من الأسفار. وأما الجمع في الحضر لغير عذر، فإن مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه. وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس، فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر كما قال مالك. ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا. وقد خرج مسلم زيادة في حديثه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في غير خوف ولا سفر ولا مطر" وبهذا تمسك أهل الظاهر. وأما الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل، وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل، وقد عدل الشافعي مالكا في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة الليل، لأنه روى الحديث وتأوله: أعني خصص عمومه من جهة القياس، وذلك أنه قال في قول ابن عباس "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر" أرى ذلك كان في مطر قال: فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله: أعني تخصيصه، بل رد بعضه وتأول بعضه، وذلك شيء لا يجوز بإجماع، وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه "جمع بين الظهر والعصر" وأخذ بقوله "والمغرب والعشاء" وتأوله وأحسب أن مالكا رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه العمل، فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل، وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روى أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء جمع معهم لكن النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر، فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع، وذلك لا وجه له، فإن إجماع البعض لا يحتج به، وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر، ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف، والعمل إنما هو فعل والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول فإن التواتر طريقة الخبر لا العمل، وبأن جعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع، والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة، ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف، وهو أقوى من عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل، وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة ظن وإن خالفته أفادت به ضعف ظن، فأما هل تبلغ هذه القرينة مبلغا ترد بها أخبار الآحاد الثابتة ففيه نظر، وعسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها، وذلك أنه كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من طريق الآحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه ضعف، وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين: إما أنها منسوخة، وإما أن النقل فيه اختلال، وقد بين ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره. وأما الجمع في الحضر للمريض فإن مالكا أباحه له إذا خاف أن يغمى عليه أو كان به بطن ومنع ذلك الشافعي. والسبب في اختلافهم هو اختلافهم في تعدي علة الجمع في السفر: أعني المشقة، فمن طرد العلة رأى أن هذا من باب الأولى والأحرى، وذلك أن المشقة على المريض في إفراد الصلوات أشد منها على المسافر، ومن لم يعد هذه العلة وجعلها كما يقولون قاصرة: أي خاصة بذلك الحكم دون غيره لم يجز ذلك.
-اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي عليه الصلاة والسلام وفي صفتها، فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى
وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف وأنه منسوخ بها. وأما صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب: أعني المنقولة من فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، والمشهور من ذلك سبع صفات. فمن ذلك ما أخرجه مالك ومسلم من حديث صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وصفت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاتهم، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم، وبهذا الحديث قال الشافعي، وروى مالك هذا الحديث بعينه عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات موقوفا كمثل حديث يزيد بن رومان أنه لما قضى الركعة بالطائفة الثانية سلم ولم ينتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة، واختار مالك هذه الصفة، فالشافعي آثر المسند على الموقوف، ومالك آثر الموقوف لأنه أشبه بالأصول: أعني أنه لا يجلس (قوله يجلس لعله يسلم كما يظهر من سابقه اهـ مصححه) الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها لأن الإمام متبوع لا متبع وغير مختلف عليه. والصفة الثالثة ما ورد في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، رواه الثوري وجماعة وخرجه أبو داود قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلوا العدو، فصلى بالذين معه ركعة وسجدتين وانصرفوا ولم يسلموا فوقفوا بإزاء العدو، ثم جاء الأخرون فقاموا معه فصلى بهم ركعة ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا "وبهذه الصفة قال أبو حنيفة وأصحابه ما خلا أبا يوسف على ما تقدم". والصفة الرابعة الواردة في حديث أبي عياش الزرقي قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فأنزل الله آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف واحد وصف بعد ذلك صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخر يحرسونهم فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفه ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا فسلم بهم جميعا" وهذه الصلاة صلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم.
قال أبو داود: وروي هذا عن جابر وعن ابن عباس وعن مجاهد، وعن أبي موسى وعن هشام ابن عروة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وهو قول الثوري وهو أحوطها يريد أنه ليس في هذه الصفة كبير عمل مخالف لأفعال الصلاة المعروفة، وقال بهذه الصفة جملة من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وخرجها مسلم عن جابر، وقال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم. والصفة الخامسة الواردة في حديث حذيفة قال ثعلبة بن زهدم قال كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان، فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا"
وهذا مخالف للأصل مخالفة كثيرة. وخرج أيضا عن ابن عباس في معناه أنه قال "الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع وفي السفر ركعتان وفي الخوف ركعة واحدة" وأجاز هذه الصفة الثوري. والصفة السادسة الواردة في حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين ركعتين، وبه كان يفتي الحسن، وفيه دليل على اختلاف نية الإمام والمأموم لكونه متما، وهم مقصرون، خرجه مسلم عن جابر.
والصفة السابعة الواردة في حديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة. وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا معه ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين تتقدم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلت ركعتين، فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، وممن قال بهذه الصفة أشهب عن مالك وجماعة. وقال أبو عمر: الحجة لمن قال بحديث ابن عمر هذا أنه ورد بنقل الأئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم، وهي أيضا مع هذا أشبه بالأصول، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة وهو المعروف من سنة القضاء المجتمع عليها في سائر الصلوات، وأكثر العلماء على ما جاء في هذا الحديث من أنه إذا اشتد الخوف جاز أن يصلوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وإيماء من غير ركوع ولا سجود. وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال: لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة، ولا يصلي أحد في حال المسايفة. وسبب الخلاف في ذلك مخالفة هذا الفعل للأصول، وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة، وأن للمكلف أن يصلي أيتها أحب، وقد قيل: إن هذا الاختلاف إنما كان بحسب اختلاف المواطن.
-أجمع العلماء على أن المريض مخاطب بأداء الصلاة، وأنه يسقط عنه فرض القيام إذا لم يستطعه ويصلي جالسا، وكذلك يسقط عنه فرض الركوع والسجود إذا لم يستطعهما أو أحدهما ويومئ مكانهما. واختلفوا فيمن له أن يصلي جالسا وفي هيئة الجلوس وفي هيئة الذي لا يقدر على الجلوس ولا على القيام، فأما من له أن يصلي جالسا فإن قوما قالوا: هذا الذي لا يستطيع القيام أصلا، وقوم قالوا هو الذي يشق عليه القيام من المرض، وهو مذهب مالك. وسبب اختلافهم هو: هل يسقط فرض القيام مع المشقة أو مع عدم القدرة؟ وليس في ذلك نص. وأما صفة الجلوس فإن قوما قالوا: يجلس متربعا: أعني الجلوس الذي هو بدل من القيام، وكره ابن مسعود الجلوس متربعا، فمن ذهب إلى التربيع فلا فرق بينه وبين جلوس التشهد، ومن كره فلأنه ليس من جلوس الصلاة. وأما صفة صلاة الذي لا يقدر على القيام ولا على الجلوس، فإن قوما قالوا يصلي مضطجعا، وقوم قالوا: يصلي كيفما تيسر له، وقوم قالوا: يصلي مستقبلا رجلاه إلى الكعبة، وقوم قالوا: إن لم يستطع الجلوس صلى على جنبه، فإن لم يستطع على جنبه صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة على قدر طاقته، وهو الذي اختاره ابن المنذر.
-وهذا الباب الكلام فيه في الأسباب التي تقتضي الإعادة، وهي مفسدات الصلاة. واتفقوا على أن من صلى بغير طهارة أنه يجب عليه الإعادة عمدا أو نسيانا، وكذلك من صلى لغير القبلة عمدا كان ذلك أو نسيانا.
وبالجملة فكل من أخل بشرط من شروط صحة الصلاة وجبت عليه الإعادة وإنما يختلفون من أجل اختلافهم في الشروط المصححة.
(وها هنا مسائل تتعلق بهذا الباب خارجة عما ذكر من فروض الصلاة اختلفوا فيها) فمنها أنهم
-(
-(
-(
-(
-(
-والكلام في هذا الباب على من يجب القضاء، وفي صفة أنواع القضاء وفي شروطه، فأما على من يجب القضاء؟ فاتفق المسلمون على أنه يجب على الناسي والنائم، واختلفوا في العامد والمغمى عليه، وإنما اتفق المسلمون على وجوب القضاء على الناسي والنائم لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام وفعله: وأعني بقوله عليه الصلاة والسلام "رفع القلم عن ثلاث" فذكر النائم وقوله "إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وما روي أنه نام عن الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها. وأما تاركها عمدا حتى يخرج الوقت، فإن الجمهور على أنه آثم، وأن القضاء عليه واجب وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه لا يقضي وأنه آثم، وأحد من ذهب إلى ذلك أبو محمد بن حزم. وسبب اختلافهم اختلافهم في شيئين: أحدهما في جواز القياس في الشرع. والثاني في قياس العامد على الناسي إذا سلم جواز القياس. فمن رأى أنه إذا وجب القضاء على الناسي الذي قد عذره الشرع في أشياء كثيرة، فالمتعمد أحرى أن يجب عليه لأنه غير معذور أوجب القضاء عليه، ومن رأى أن الناسي والعامد ضدان: والأضداد لا يقاس بعضها على بعض إذ أحكامها مختلفة، وإنما تقاس الأشباه، لم يجز قياس العامد على الناسي، والحق في هذا أنه إذا جعل الوجوب من باب التغليظ كان القياس سائغا. وأما إن جعل من باب الرفق بالناسي والعذر له وأن لا يفوته ذلك الخير، فالعامد في هذا ضد الناسي، والقياس غير سائغ لأن الناسي معذور والعامد غير معذور، الأصل أن القضاء لا يجب بأمر الأداء، وإنما يجب بأمر مجدد على ما قال المتكلمون، لأن القاضي قد فاته أحد شروط التمكن من وقوع الفعل على صحته، وهو الوقت إذ كان شرطا من شروط الصحة والتأخير عن الوقت في قياس التقديم عليه، لكن قد ورد الأثر بالناسي والنائم وتردد العامد بين أن يكون شبيها أو غير شبيه، والله الموفق للحق. وأما المغمى عليه، فإن قوما أسقطوا عنه القضاء فيما ذهب وقته، وقوم أوجبوا عليه القضاء. ومن هؤلاء من اشترط القضاء في عدد معلوم، وقالوا: يقضي في الخمس فما دونها. والسبب في اختلافهم تردده بين النائم والمجنون، فمن شبهه بالنائم أوجب عليه القضاء، ومن شبهه بالمجنون أسقط عنه الوجوب. وأما صفة القضاء، فإن القضاء نوعان: قضاء لجملة الصلاة، وقضاء لبعضها. أما قضاء الجملة فالنظر فيه في صفة القضاء وشروطه ووقته. فأما صفة القضاء فهي بعينها صفة الأداء إذا كانت الصلاتان في صفة واحدة من الفرضية وأما إذا كانت في أحوال مختلفة مثل أن يذكر صلاة حضرية في سفر أو صلاة سفرية في حضر، فاختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقوم قالوا: إنما يقضي مثل الذي عليه ولم يراعوا الوقت الحاضر، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم قالوا: إنما يقضي أبدا أربعا سفرية كانت منسية أو حضرية، فعلى رأي هؤلاء إن ذكر في السفر حضرية صلاها حضرية، وإن ذكر في الحضر سفرية صلاها حضرية وهو مذهب الشافعي. وقال قوم: إنما يقضي أبدا فرض الحال التي هو فيها فيقضي الحضرية في السفر سفرية، والسفرية في الحضر حضرية، فمن شبه القضاء بالأداء راعى الحال الحاضرة وجعل الحكم لها قياسا على المريض يتذكر صلاة نسيها في الصحة أو الصحيح يتذكر صلاة نسيها في المرض: أعني أن فرضه هو فرض الصلاة في الحال الحاضرة، ومن شبه القضاء بالديون أوجب للمقضية صفة المنسية. وأما من أوجب أن يقضي أبدا حضرية، فراعى الصفة في إحداهما والحال في الأخرى، أعني أنه إذا ذكر الحضرية في السفر راعى صفة المقضية، وإذا ذكر السفرية في الحضر راعى الحال؛ وذلك اضطراب جار على غير قياس إلا أن يذهب مذهب الاحتياط، وذلك بتصور فيمن يرى القصر رخصة.
-(
-(
-
-(وأما المسألة الثانية) من المسائل الثلاث الأول التي هي أصول هذا الباب وهي: هل إتيان المأموم بما فاته من الصلاة مع الإمام أداء أو قضاء؟ فإن في ذلك ثلاثة مذاهب، قوم قالوا: إن ما يأتي به بعد سلام الإمام هو قضاء وإن ما أدرك ليس هو أول صلاته. وقوم قالوا: إن الذي يأتي به بعد سلام الإمام هو أداء، وإن ما أدرك هو أول صلاته. وقوم فرقوا بين الأقوال والأفعال فقالوا: يقضي في الأقوال يعنون في القراءة، ويبني في الأفعال يعنون الأداء، فمن أدرك ركعة من صلاة المغرب على المذهب الأول: أعني مذهب القضاء قام إذا سلم الإمام إلى ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة من غير أن يجلس بينهما، وعلى المذهب الثاني: أعني على البناء قام إلى ركعة واحدة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويجلس، ثم يقوم إلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن فقط، وعلى المذهب الثالث يقوم إلى ركعة فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يجلس ثم يقوم إلى ركعة ثانية يقرأ فيها أيضا بأم القرآن وسورة، وقد نسبت الأقاويل الثلاثة إلى المذهب، والصحيح عن مالك أنه يقضي في الأقوال ويبني في الأفعال لأنه لم يختلف قوله في المغرب إنه إذا أدرك منها ركعة أنه يقوم إلى الركعة الثانية ثم يجلس، ولا اختلاف في قوله إنه يقضي بأم القرآن وسورة وسبب اختلافهم أنه ورد في بعض روايات الحديث المشهور "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" والإتمام يقتضي أن يكون ما أدرك هو أول صلاته وفي بعض رواياته "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" والقضاء يوجب أن ما أدرك هو آخر صلاته؛ فمن ذهب مذهب الإتمام قال: ما أدرك هو أول صلاته؛ ومن ذهب مذهب القضاء قال: ما أدرك هو آخر صلاته، ومن ذهب مذهب الجمع جعل القضاء في الأقوال والأداء في الأفعال، وهو ضعيف: أعني أن يكون بعض الصلاة أداء وبعضها قضاء، واتفاقهم على وجوب الترتيب في أجزاء الصلاة، وعلى أن موضع تكبيرة الإحرام هو افتتاح الصلاة، ففيه دليل واضح على أن ما أدرك هو أول صلاته لكن تختلف نية المأموم والإمام في الترتيب فتأمل هذا، ويشبه أن يكون هذا هو أحد ما راعاه من قال: ما أدرك فهو آخر صلاته.
-(
-(فأما المسألة الأولى) فإن قوما قالوا: إذا أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة، ويقضي ركعة ثانية، وهو مذهب مالك والشافعي، فإن أدرك أقل صلى ظهرا أربعا. وقوم قالوا: بل يقضي ركعتين أدرك منها ما أدرك، وهو مذهب أبي حنيفة، وسبب الخلاف في هذا هو ما يظن من التعارض بين عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" وبين مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" فإنه من صار إلى عموم قوله عليه الصلاة والسلام "وما فاتكم فأتموا" أوجب أن يقضي ركعتين وإن أدرك منها أقل من ركعتين ومن كان المحذوف عنده في قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" أي فقد أدرك حكم الصلاة وقال: دليل الخطاب يقتضي أن من أدرك أقل من ركعة فلم يدرك حكم الصلاة والمحذوف في هذا القول محتمل، فإنه يمكن أن يراد به فضل الصلاة، ويمكن أن يراد به وقت الصلاة، ويمكن أن يراد به حكم الصلاة ولعله ليس هذا المجاز في أحدهما أظهر منه في الثاني، فإن كان الأمر كذلك كان من باب المجمل الذي لا يقتضي حكما، وكان الآخر بالعموم أولى، وإن سلمنا أنه أظهر في أحد هذه المحذوفات وهو مثلا الحكم على قول من يرى ذلك لم يكن هذا الظاهر معارضا للعموم، إلا من باب دليل الخطاب، والعموم أقوى من دليل الخطاب عند الجميع، ولاسيما الدليل المبني على المحتمل أو الظاهر. وأما من يرى أن قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" أنه يتضمن جميع هذه المحذوفات فضعيف وغير معلوم من لغة العرب، إلا أن يتقرر أن هنالك اصطلاحا عرفيا أو شرعيا.
وأما مسألة اتباع المأموم للإمام في السجود: أعني في سجود السهو فإن قوما اعتبروا في ذلك الركعة: أعني أن يدرك من الصلاة معه ركعة، وقوم لم يعتبروا ذلك، فمن لم يعتبر ذلك فمصيرا إلى عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن اعتبر ذلك فمصيرا إلى مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" ولذلك اختلفوا في المسألة الثالثة فقال قوم: إن المسافر إذا أدرك من صلاة الإمام الحاضرة أقل من ركعة لم يتم، وإذا أدرك ركعة لزمه الإتمام، فهذا حكم القضاء الذي يكون لبعض الصلاة من قبل سبق الإمام له. وأما حكم القضاء لبعض الصلاة الذي يكون للإمام والمنفرد من قبل النسيان، فإنهم اتفقوا على أن ما كان منها ركنا فهو يقضي: أعني فريضة، وأنه ليس يجزي منه إلا الإتيان به، وفيه مسائل اختلفوا فيها، بعضهم أوجب فيها القضاء وبعضهم أوجب فيها الإعادة، مثل من نسي أربع سجدات من أربع ركعات سجدة من كل ركعة، فإن قوما قالوا: يصلح الرابعة بأن يسجد لها، ويبطل ما قبلها من الركعات ثم يأتي بها، وهو قول مالك. وقوم قالوا: تبطل الصلاة بأسرها ويلزمه الإعادة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل. وقوم قالوا: يأتي بأربع سجدات متوالية وتكمل بها صلاته، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي. وقوم قالوا: يصلح الرابعة ويعتد بسجدتين، وهو مذهب الشافعي. وسبب الخلاف في هذا مراعاة الترتيب، فمن راعاه في الركعات والسجدات أبطل الصلاة، ومن راعاه في السجدات أبطل الركعات ما عدا الأخيرة قياسا على قضاء ما فات المأموم من صلاة الإمام، ومن لم يراع الترتيب أجاز سجودها معا في ركعة واحدة، ولا سيما إذا اعتقد أن الترتيب ليس هو واجبا في الفعل المكرر في كل ركعة: أعني السجود، وذلك أن كل ركعة تشتمل على قيام وانحناء وسجود، والسجود مكرر، فزعم أصحاب أبي حنيفة أن السجود لما كان مكررا لم يجب أن يراعي فيه التكرير في الترتيب، ومن هذا الجنس اختلاف أصحاب مالك فيمن نسي قراءة أم القرآن من الركعة الأولى فقيل لا يعتد بالركعة ويقضيها، وقيل يعيد الصلاة، وقيل يسجد للسهو وصلاته تامة، وفروع هذا الباب كثيرة، وكلها غير منطوق به، وليس قصدنا ههنا إلا ما يجري مجرى الأصول.
-والسجود المنقول في الشريعة في أحد موضعين إما عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال الصلاة وأقوالها من قبل النسيان لا من قبل العمد. وأما عند الشك في أفعال الصلاة، فأما السجود الذي يكون من قبل النسيان لا من قبل الشك فالكلام فيه ينحصر في ستة فصول: الفصل الأول: في معرفة حكم السجود. الثاني: في معرفة مواضعه من الصلاة. الثالث: في معرفة الجنس من الأفعال والأفعال التي يسجد لها. الرابع: في صفة سجود السهو. الخامس: في معرفة من يجب عليه سجود السهو. السادس: بماذا ينبه المأموم الإمام الساهي على سهوه.
-اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أو سنة، فذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه فرض لكن من شروط صحة الصلاة. وفرق مالك بين السجود للسهو في الأفعال وبين السجود للسهو في الأقوال وبين الزيادة والنقصان فقال: سجود السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب، وهو عنده من شروط صحة الصلاة، هذا في المشهور، وعنه أن سجود السهو للنقصان واجب وسجود الزيادة مندوب والسبب في اختلافهم اختلافهم في حمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في ذلك على الوجوب أو على الندب فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في السجود على الوجوب إذ كان هو الأصل عندهم إذ جاء بيانا لواجب كما قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وأما الشافعي فحمل أفعاله في ذلك على الندب وأخرجها عن الأصل بالقياس، وذلك أنه لما كان السجود عند الجمهور ليس ينوب عن فرض وإنما ينوب عن ندب رأى أن البدل عما ليس بواجب ليس هو بواجب. وأما مالك فتأكدت عنده الأفعال أكثر من الأقوال، لكونها من صلب الصلاة أكثر من الأقوال، أعني أن الفروض التي هي أفعال هي أكثر من فروض الأقوال، فكأنه رأى أن الأفعال آكد من الأقوال، وإن كان ليس ينوب سجود السهو إلا عما كان منها ليس بفرض، وتفريقه أيضا بين سجود النقصان والزيادة على الرواية الثانية ليكون سجود النقصان شرع بدلا مما سقط من أجزاء الصلاة وسجود الزيادة كأنه استغفار لا بدل.
-اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال: فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبدا قبل السلام، وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبدا بعد السلام. وفرقت المالكية فقالت: إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام وإن كان لزيادة كان بعد السلام. وقال أحمد بن حنبل: يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام، فما كان من سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل السلام. وقال أهل الظاهر: لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به، وإن كان ندبا فليس عليه شيء والسبب في اختلافهم أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة عنه أنه قال "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس" وثبت أيضا أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين، فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو: أعني الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام إلى أشباهها في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمع. والثالث الجمع بين الجمع والترجيح. فمن رجح حديث ابن بحينة قال: "السجود قبل السلام" واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان" قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام لأنها ممكنة الوقوع خامسة، واحتجوا لذلك أيضا بما روي عن ابن شهاب أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام" وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد السلام، واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة ابن شعبة "أنه عليه الصلاة والسلام قام من اثنتين ولم يجلس ثم سجد بعد السلام" قال أبو عمر: ليس مثله في النقل فيعارض به، واحتجوا أيضا لذلك بحديث ابن مسعود الثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام". وأما من ذهب مذهب الجمع فإنهم قالوا: إن هذه الأحاديث لا تتناقض، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة والسجود قبل السلام في النقصان، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع، قالوا: وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض. وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح فقال: يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع. وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحكم فيها السجود قبل السلام فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام قبل السلام، ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح: أعني أنه قال على السجود الذي قبل السلام ولم يقس على الذي بعده. وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكما خارجا عنها وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط. وأما أحمد بن حنبل، فجاء نظره مختلطا من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس، وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام، ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس: أعني لأصحاب القياس وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل، وذلك إما من حيث هي مشهورة، وأصل لغيرها، وإما من حيث هي كثيرة الوقوع. والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدها أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة. والثاني أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين. والثالث أنه صلى خمسا على ما في حديث ابن عمر، خرجه مسلم والبخاري. والرابع أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين. والخامس السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي بعد. واختلفوا لماذا يجب سجود السهو؟ فقيل يجب للزيادة والنقصان، وهو الأشهر؛ وقيل للسهو نفسه، وبه قال أهل الظاهر والشافعي.
|